هم اطفال الصمود ...
لقد
وضعوا انفسهم في التاريخ .. بصمودهم وصبرهم .. ((اطفال غزه))
أم كامل الكرد
حكاية صمود فلسطيني أسطوري! اقتلعها المستوطنون، بحماية الجنود،
من بيتها الذي تملكه في حي الشيخ جراح في القدس، فأصرّت على الصمود ونصبت الخيم
وصارت مثالاً يحتذى..** القنصل البلجيكي سماها "المرأة الفلسطينية التي تقود
الرجال"، وهي علّمت نساء أمريكيات زرنها في مدرسةِ الصمود في خيمتها، ما لم يتعلمنه
في الجامعات الأمريكية…!
لا تحمل في جعبتها من الشهادات سوى شهادة الميلاد،
ولا تحتفظ بذكرياتٍ جميلة إلا في حضن وطنها، ولم تعشق أرضًا أكثر من عشقها لتراب
فلسطين، ولم تشعر بالأمان إلا في بيتها… ولا تشعر بسعادةٍ وراحةِ بال إلا عندما
تصلي في الأقصى الشريف…
عن طفولتها ليسَ هناك الكثير مما يقال، هي طفولة
عادية في ربوع فلسطين، وأيامٍ مرّت كالخيال، وغابت كما غابَ الأحبة… كان كل شيءٍ
على ما يرام، وبينما احتضنت ابناءها وعاشت براحة بال مع زوجها أبو كامل لأعوامٍ
ظنتها ستستمر العمر كله… وإذا بالزمن ينقلب ويفتح باب الهمِ والوجع ليستقبل ام كامل
وعائلتها…
ولأم كامل قصة لا يحسن سردها سواها… قصة "فوزية الكرد" تبدأ
فصولها منذ العام 1999، حيثُ تتكرر المشاهد أمامها وتعبر الكثير من الآلام لتتحول
قصتها إلى عنوانٍ جديد للتحدي والصمود.
وفي تفاصيل الرواية، كما
ترويها:عام 1999، كان البيت في حي الشيخ
جراح في القدس مقسّا الى قسمين – قسمٌ بني من الطوب وقسم اخر من الحجر. توجهتُ
لبلدية القدس للحصول على موافقة لترميم بيتي، فأجابني موظف البلدية "امنون"، لن
نسمح لكِ بترميم البيت!.
..عدتُ بخفي حنيْن، لكن مع قرار واضح بترميم البيت
على حسابي الخاص. وهذا ما حصل وصارَ بيتي أجمل… وسُرّ شركائي في البيت – أبنائي
وزوجي.
..وفي صباحٍ صيفيّ حضر شخص يكنى "عزرا" قالَ لي: "أنا من بلدية
القدس، اريد اخذ هويتك التي سجلت فيها اسماء ابنائك، لتسجيل التفاصيل في حساب
الأرنونا… صدقته وأعطيته الهوية التي سُجل فيها ولداي كامل ورائد… بعد أسبوعٍ
بالتمام والكمال وصلني أمرٌ مستعجل من المحكمة. توجه الأبناء الى المحكمة لنكتشف
أنّ "عزرا" عضوٌ في حركة استيطانية، وأنه وأترابه دبروا لنا مكيدة، حيث ادعى بأن له
أحقية في البيت… وطلب منا القاضي التفاهم مع المستوطن، ولما رفض أبنائي أمر التفاهم
مع المستوطنين، صدر بحقهما قرار مجحف يقضي بإغلاق البيت وتغريمنا بـ 120 الف شيكل…
دفعنا الغرامة وأغلقنا القسم الثاني من بيتنا، بينما صادرت دائرة الإجراء محتويات
البيت.
في العام 2001 كنت مع زوجي المريض في المستشفى، واذا بجارتي تتصل بي
وتطلب مني العودة بأقصى سرعة الى البيت…
عدتُ الى البيت لأجد نحو 70
مستوطنًا في بيت أبنائي يهللون ويحتفلون والى جانبهم يقف جندي يحرسهم، وآخر على باب
بيتي وقف يتتبع تحركاتي… كانت هذه أول مرةٍ أشعر فيها بمعنى الاضطهاد. وعند عتبة
بيتي استوقفني الجندي ليقول لي: "يا حاجة أنا اسرائيلي، لستُ عربيًا، لكنني سأعترف
لك بأنهم دخلوا البيت بختمٍ مزوّر، فاحذري من تصرفاتهم، أنصحك وأتألم
لأجلك".
..توجهتُ مباشرة الى المحامي وأبلغته بالطريقة غير القانونية التي
دخلوا فيها الى البيت. انتظرتُ صدور الحكم بإخلاء المستوطنين، وتبادلت العائلات
مسكن أبنائي لأيامٍ وشهورٍ وسنوات حتى صدر أمر الاخلاء في 17/4/2007، لكن القرار لم
ينفذ.
فعل المستوطنون في بيتي ما لا يفعله الشيطان. حاولوا استفزازي بكافة
الطرق. كنتُ التقي ابنائي خارج حدود باب بيتي. وأمضي الليالي الطوال أنا وزوجي
المريض، بجسمه شبه المقعد، بينما في الشقة الثانية يتسامر المستوطنون في احتفالٍ
مهيب.
أذكر أنه في العام 2002 دخل مستوطنان مسلحان بيتي.. كنتُ يومها وحدي
في البيت أسبّح بأسماء الله الحسنى، تاركة زوجي في المستشفى، وفي لحظاتٍ ظننتها
خيالاً أعيشه، قمتُ من مكاني وطردتهم من بيتي، بطريقةٍ لا أذكرها بتفاصيلها، لكنني
عانيتُ بسببها لسنتين وتلقيتُ علاجًا ضد "الاكتئاب النفسي".
وتوالت الأحداث،
مضت سبعة أشهر وإذا بالمستوطن يضع حقيبة وفيها مسدسٌ، رأيتهم بأم عيني وظنوا أني
خارج البيت… اتصلتُ بأبنائي وزوجاتهم أحذرهم من زيارتي او الاقتراب من المكان، حتى
لا يحصل ما لا يحمد عقباه..لقد أدركتُ لحظتها انهم يريدون ان يتسببوا في هدم بيتي
او حبس أبنائي، فحبستُ نفسي في البيت طوال النهار، وفي الساعة الثالثة والنصف
ليلاً، عادَ المستوطن ليتناول حقيبته ويختفي كالخفافيش في الظلام.
لم تتوقف
الأحداث… ففي العام 2004 سكنت بجواري عائلة يمنية، رافقها حارس المنطقة لحمايتها.
غابت العائلة عن البيت ثلاثة أيام تاركةً بيتها مفتوحًا، ولم أجرؤ على أن أمرّ من
أمام بيتها.
بعد شهرٌ ونصف وضعت الجارة حقيبتها وهاتفها النقال على حافة
نافذتي، وراحت… خفتُ وطلبتُ من زوجي أن يراقب المكان، لئلا تمتد يدُ طفلٍ من أبناء
الحارة الى الحقيبة، ثم توجهتُ للحارس ليأخذ القاذورات التي وضعتها على نافذتي
لتبتليني بالسرقة.
..لم استسلم حتى عندما خرب ابناءُ المستوطنين منظر الساحة
الجميل، وسكبوا المياه وملأوها بالأوساخ… وحتى عندما علقت الجارة اليمنية على باب
بيتها صورة الفلسطيني الذي يرتدي الحطة وبدأت تعلّم أولادها كيف يقنصون العربي:
فإصابة اللون الأصفر تعني اقتلاع عينه والأحمر تستقر في فمه والأخضر تستقر في
أعماقه.. وهكذا تخرج الفلسطينية من البيت (تقصدني بكلامها)!
..ولم أيأس
وأسلّم بقضائي وقدري حتى عندما أغلقت شبكة المجاري في بيتي، في مساءٍ شتويٍ مثلج،
فداهمتني الروائح الكريهة، ولما حضرَ "المواسرجي" وجدَ اطنان الحفاظات في داخل
أنبوبة التصريف!!
ولما ضاقوا ذرعًا بقوة احتمالي عرض عليّ محام باسم شامير
مبلغا قدره 10 مليون دولار.. لأشتري بيتًا في بيت حنينا. فأجبته باستهزاء: لا أعرف
بيت حنينا، ولن أترك بيتي.
مرّت الأيام وإذا بجنديين مسلحين، يحاولان دفع
الباب، ولما رفضتُ دخولهما، سلماني عبر النافذة رسالة من وزير السياحة اليميني
المتطرف بيني الون يعرض عليّ فيها مبلغ 15 مليون دولار مقابل اخلاء بيتي، فمزقتها
لينصرفا عني.
المشهد قبل الأخير من مأساة ام
كاملكانت الدنيا مطر، وليالي الشتاء بردٌ
وظلامٌ وقهرٌ على ام كامل.
في التاسع من تشرين الأول 2008 دخل نحو خمسين
جنديًا الى بيت ام كامل، بينما تفرّق ثلاثة الاف جندي في المنطقة: قواتٌ مسلحة
وبنادق مجهزة بالذخيرة، لمنع مقاومة سيدة لا حول لها ولا قوة ورجلٌ مقعدٌ نصفهُ
عاجز.
وقف الجنود أمامي في الساعة الثالثة والنصف من فجر ذلك اليوم المشؤوم.
كنتُ قد تناولتُ العباءة وغطاء الرأس بسرعة، حين طُرق باب البيت، وكالمحكوم عليه
بالإعدام أمسكت بي ثلاثُ مجندات ودفعنني ورمين بجسدي في الشارع. تجمّدت في مكاني،
ارتجفتُ من البرد، صكت أسناني، وحبستُ دموعي، وحلفتُ بيني وبين نفسي أنني لن
أسامحهم على هذه الجريمة…
أما أبو كامل فكان نصيبه في تلك الليلة أن يسقط
على الأرض فتعاجله أزمةٌ قلبية، ثم تمنع سيارة الهلال الأحمر من اسعافه، وفي الساعة
العاشرة والنصف صباحًا، وبينما برد الشتاء يطالُ جسدي، حضرَ أبنائي وجيراني، فنقلنا
ابو كامل الى مستشفى المقاصد فبات ليلة هناك ثم نقلناه الى الخيمة التي نصبت في
10/11، فعاجلته ذبحة طالت الكلى، فأدخلناه الى المستشفى الفرنساوي، فرحمه الله
وأراحه من عذابٍ جديد.
في هذه الخيمة تعلمتُ وصرتُ أقوى. في اليوم الأول
لإقامتها عاجلتني البلدية بأمر مخالفة بقيمة 430 شيكل، وفي اليوم الذي يليه غُرمت
بنفس المبلغ وكذلك الأمر في اليوم الثالث، وفي اليوم الرابع سألني موظف البلدية:
أراكِ غير مبالية؟!، فأجبته: أصبحت مخالفتكم كحبة الأكامول لتسكين أوجاع الرأس،
صارت شيئًا عاديًا… الأمر غيرُ العادي أنكم تخالفونني بدون أيِ حقٍ قانوني، تارةً
تدعون أن هذا العمل ارهابي، وتارةً يشوه جمال المدينة، لكنَ أين المستند القانوني
الذي تعتمدون عليه في مخالفتكم؟!!! في التاسع عشر من كانون الأول غُرمت بمبلغ 500
شيكل فقررت تقسيطه على 5 دفعات نكاية بالمخالفين.
وقبل أكثر من اسبوع، عندما
أمطرت الدنيا بمياه البركة، اتصلت بي ابنتي كي أزورها واطمئن على حال طفلتها
الرضيعة، وفي مشوارٍ يستغرقُ ثلاث دقائق سيرًا على الأقدام، أصبحنا نصل اليه بعد
ثلاث ساعاتٍ بسبب الجدار الكارثي الذي زرع في القدس… وصلتُ بيت ابنتي واذا بمنادٍ
عبر الهاتف النقال يستحثني على العودة الى خيمتي التي هُدمت للمرة السادسة….عادت ام
كامل الى حضن خيمةٍ جديدة نُصبت اوتادها فوق المكان السابق، وها هي تلتقط أنفاسها
من جديد…
لم ينتهِ المشهد
الأخير…زرناها الأسبوع الماضي في خيمتها
"الجديدة"، وفي الزاوية المقابلة للخيمة جمهورٌ من المتضامنين يتحدثون الى المرأة
المقدسية التي صمدت، رغم نزف الجراح…
أما درب خيمتها فيستقبل الوافدين
يوميًا… الذين يدخلون الى خيمتها متسائلين، مستفسرين عن حالها، ثم يخرجون بقصةٍ
لسيدة صنعت حكاية جديدة للتحدي…
زوارها يعرفون أنّ جذورها عميقة في الأرض
الفلسطينية وأنها من عائلة عريقة، هجرت عائلة أبيها في العام 48 من منطقة الطالبية
غرب القدس بينما هجرت عائلة زوجها من حي العجمي في مدينة يافا في العام ذاته،
والتقى الزوجان ليكونا عائلة واحدة استقرت في حي الشيخ جراح، وسط مدينة
القدس.
زوارها في خيمة الصمود والتصدي يعرفون أيضًا أنّ قصتها واحدة من مئات
القصص التي يعيشها المقدسيون منذُ سنين، وأنّ آخر القصص التي وصلت آذانهم ترتبط
بعائلتي غاوي وحنون في نفس الحي الذي سكنته ام كامل.
زوار ام كامل يعرفون
تمامًا أنّ بيتها هو ملكية تركية ووضعه القانوني سليمٌ مئة بالمئة، بشهادة محاميها
حسين أبو حسين.
لكن في تفاصيل الرواية لم يعرف الكثيرون كيف هي نظرةُ ام
كامل الى الحياة، وما معنى التحدي… كثيرون لم يعرفوا ام كامل عن قرب ولم يسمعوا أنّ
القنصل البلجيكي سماها "المرأة الفلسطينية التي تقود الرجال"، وما عرف مَن لم
يعرفها، أنها علّمت نساء أمريكيات زرنها في مدرسةِ الصمود في خيمتها، ما لم يتعلمنه
في الجامعات الأمريكية…
وفي مدرستها صارَ أحفادها يتحدثون كالكبار معها –
فبنتُ السنوات الخمس تقول لها: يا جدتي لا أريد عيدية منك، فأنتِ أرملة، وبلا بيتٍ
وبدون كساء ورداء، فاشترِي ملابس لك…
وفي كلماتها التي سمعها الزائرون قالت:
"نريد عملاً سياسيًا يوقف الاستيطان ويمنع الاحتلال… نريد الخروج من سجننا، ومن
حصارنا هذا الى الأب
_________________
كلٌ لهم وطنٌ يعيشون فيه الا نحن فلنا
وطنٌ هو يعيش فينا